ملفات بيبي في تورنتو.. قنبلة سياسية
رفضت المدعية العامة الإسرائيلية، جالي باهاراف ميارا، النظر في عريضة جديدة، تطالب بإعادة تقييم الاتفاق الذي أبرم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، في 2020، الذي يخوله أداء مهامه وهو متهم في قضايا جنائية، مستندة على معطيات متعلقة بإدارته الحرب في غزة، وطلبت من المحكمة العليا أن تُعجل بإنهاء محاكمات نتانياهو، لأنه (أصبح من الواضح، من أجل الصالح العام، أن يتم الانتهاء من المحاكمات الجنائية الخاصة بنتانياهو في أسرع وقت ممكن، لأنه من المفروض على نتانياهو، مثل أي رئيس وزراء أو خادم عام، أن يستخدم صلاحياته حصريًا لما هو في الصالح العام).. موضحة أن ذلك يعني، أن عليه أن يتجنب أي فعل له اعتبارات خارجية، وذلك يصح بالتأكيد عندما يكون الأمر متعلق بقرارات سير الحرب.
العريضة التي قدمها سبعون شخصًا، من بينهم أقارب لرهائن إسرائيليين محتجزين في غزة، طالبت المحكمة العليا بجعل المدعية العامة تعطي رأيها، فيما إذا كان نتانياهو يُسيِّر أمور الحرب بناء على مصالحه الشخصية، ومن ثم مراجعة (اتفاق تضارب المصالح).. وقد لفتت باهاراف ميارا، إلى أن عرائض سابقة تطالب بإقالة نتانياهو من منصبه تم رفضها، لأن الحرب في غزة لم تكن مبررًا كافيًا لتعديل أو تحجيم صلاحيات رئيس الوزراء، وأن المحاكمات ستبدأ في الثاني من ديسمبر، بالاستماع لرئيس الوزراء.. وحينها على القضاة إنهاء المحاكمات بشكل عاجل، مع مراعاة العدالة، وأنه لا أحد فوق القانون.. وشدد مقدمو العريضة، أن نتانياهو هو الشخص المسئول عن مصير الجنود الإسرائيليين وحياة الرهائن، وإمكانية إعادتهم إلى ديارهم، لذا وجب التحرك فورًا.
قالت صحيفة (هآرتس) العبرية، إن القضاء الإسرائيلي حدد تاريخ الثاني من ديسمبر المقبل، موعدًا لإدلاء رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، بشهادته في قضايا فساد ورشوة، إلا أن ذلك الموعد (خيّب آمال فريق دفاع نتانياهو)، الذي كان يفضل أن يكون في مارس المقبل بسبب (ظروف الحرب) في قطاع غزة، ولفحص وتقديم الأدلة اللازمة.. وبموجب القانون، يجب أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي شاهد الدفاع الأول، لأنه المتهم الرئيسي، ولذلك سيبدأ في الإدلاء بشهادته بعد أكثر من أربع سنوات من بدء المحاكمة في مايو 2020.. ويرى رئيس الوزراء وحلفاؤه، أن الاتهامات الموجهة له هي (ذات دوافع سياسية)، واقترحوا إصلاحًا قضائيًا من شأنه الحد من سلطات المحاكم، إلا أن المظاهرات المناهضة لهم، حالت دون تحقيق ذلك.
وتشمل المحاكمة ثلاث قضايا، أولها قضية (بيزك) أو (الملف 4000)، التي تقول المحكمة إن نتانياهو حاول الحصول على تغطية إيجابية لنفسه في الموقع الإليكتروني (والا)، وفي المقابل يشتبه بأنه وفّر امتيازات حكومية أدرت ملايين الدولارات على شاؤول إيلوفيتش، رئيس مجموعة بيزيك للاتصالات وموقع (والا).. أما القضية الثانية (ميديا جيت) أو (الملف 2000)، فيقول المحققون، إن نتانياهو حاول التوصل لاتفاق مع الناشر أرنون موزيس، مالك صحيفة (يديعوت أحرونوت)، أكثر الصحف انتشارًا في إسرائيل، للحصول على تغطية إيجابية عنه، وفق فرانس برس.. وتتعلق قضية (الملف 1000)، بأنواع فاخرة من السيجار وزجاجات كحول ومجوهرات، حيث يريد المحققون أن يعرفوا، ما إذا كان نتانياهو وأفراد من عائلته تلقوا هدايا تتجاوز قيمتها سبعمائة ألف شيكل (240 ألف دولار)، من أثرياء بينهم المنتج الإسرائيلي الهوليوودي، أرنون ميلتشان، والملياردير الأسترالي جيمس باكر، لقاء امتيازات مالية شخصية.
في نفس الوقت، أثار خبر إدراج الفيلم الوثائقي (ملفات بيبي)، عن بنيامين نتنياهو، ضمن عروض مهرجان تورونتو السينمائي، غضب نتنياهو الشديد، مما دفعه إلى أن يطلب من المحكمة المركزية في القدس، إصدار أمر فوري يحظر عرضه للإسرائيليين؛ إذ يتناول الفيلم تأثير فساده على قراراته السياسية والاستراتيجية، وما تسبَّبت فيه من تخريب على عملية السلام، والمساس بحقوق الإنسان الفلسطيني.. لكن القاضي الإسرائيلي رفض إصدار أمر مثل هذا، وقال إن الفيلم يحتوي على مقاطع فيديو توثّق تحقيقات الشرطة مع نتنياهو، ومع زوجته سارة، ونجله يائير، وإذا كان القانون الإسرائيلي يحظر نشر مقاطع من تحقيقات الشرطة في أي قضية، لكنه لا يحظر على الأشخاص حصولهم على التسجيلات، أي لا يحظر فيلمًا مستمَدًا من تلك الوثائق.. وعلى الفور، أُطلقت مجموعة معارضين لنتنياهو، مبادرة لإمكانية مشاهدة الفيلم بأجر رمزي شبه مجاني.. وفي ليلة واحدة سجّل حوالي ثلاثة عشر ألف شخص طلبات المشاهدة، كان بينهم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت.
الفيلم الوثائقي، الذي تبلغ مدته ساعتين، من إنتاج مشترك، للحائز على جائزة الأوسكار، أليكس جيبني، وهو أمريكي ـ إسرائيلي، والصحفي الإسرائيلي في القناة الثالثة عشر، رافيف دروكر، ومن إخراج اليهودية الأمريكية، أليكسيس بلوم.. وقد حصل جيبني على التسجيلات المصوّرة العام الماضي، وهي مُسرّبة من الشرطة، عن التحقيقات التي سُجّلت بين عامَي 2016 و2018، بوصفها جزءًا من جمع الشرطة الأدلة، لتحديد ما إذا كان ينبغي توجيه لائحة اتهام ضد نتنياهو، وقد وُجّهت ضده عام 2019، وشملت تهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
تتضمّن المقاطع أيضًا، تحقيقات مطوَّلة مع نتنياهو وزوجته ونجله وأصدقائه ومقرّبين منه، ومع موظفين في مسكن رئيس الحكومة الرسمي.. ونقلت وسائل الإعلام عن جيبني قوله، إن (هذه التسجيلات تُلقي الضوء على شخصية نتنياهو بطريقة غير مسبوقة وغير عادية، إنها دليل قوي على شخصيته الفاسدة المرتشية، وكيف قادتنا إلى ما نحن عليه الآن).. وقالت المخرجة أليكسيس، إن نتنياهو يظهر في الفيلم كبطل تراجيدي، على طريقة أبطال مسرحيات شكسبير، أي (البطل الذي يقع ضحيةَ أفعاله)، وقد كشفت التحقيقات أمورًا مذهلة لم تُعرَف بهذه التفاصيل، عن مدى جشعه وحبه للمال والهدايا، وغوصه في الملذّات والركض وراء المال، لدرجة أنه أهمل شئون الدولة، حتى تدهورت إلى الحد الذي نراها فيه الآن.
ووفقًا لتوم باورز، كبير مبرمجي الأفلام الوثائقية في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، فإن فيلم (ملفات بيبي)، عمل من أعمال الصحافة الوثائقية من الدرجة الأولى، فقد حصل أليكسيس بلوم وأليكس جيبني، على لقطات كاشفة لم يرَها أحد من قبل، ثم أجرَيا مقابلات معمّقة مع مجموعة واسعة من الشخصيات، بما في ذلك أعلى مستويات الحكومة الإسرائيلية.. وعلى الرغم من أن التسجيلات التي تحتوي على آلاف الساعات من التحقيقات، تم إجراؤها منذ أكثر من ثماني سنوات، فإنه لم يتم رؤيتها في أي مكان، بما في ذلك إسرائيل، بسبب قانون الخصوصية.. وقالت المخرجة أليكسيس بلوم، إن (شخصية نتنياهو تبرز بقوة في التسجيلات، وأودّ أن أقول إن الفارق بين هذا الفيلم ونشرات الأخبار أو أي شيء قد تشاهده عن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، هو أن هذه نظرة إنسانية للغاية إلى الأشخاص الذين يتصدّرون عناوين الأخبار).. الفيلم الوثائقي يستخدم مقاطع فيديو الاستجواب (كطريقة للدخول) إلى قصة نتنياهو، رئيس الحكومة الأطول مدةً في إسرائيل، الذي تولّى منصبه ست مرات، (وكان عملنا في هذا الفيلم، هو ربط هذه التحقيقات ومحاكمة الفساد بكل ما يأتي بعد ذلك).. وأعربت بلوم عن خيبة أملها، لأن الكثير من الأشخاص لم يتحدثوا علنًا، بل رفضوا التسجيل، مؤكدة إنها أجرت مقابلات مع رؤساء أركان سابقين ورؤساء (شين بيت) وآخرين في مناصب عليا تحت قيادة نتانياهو، تحدثوا معها لساعات عن أكاذيبه وفساده.
إن خطة (الإصلاح القضائي) لإضعاف جهاز القضاء، التي أطلقتها حكومة نتنياهو، مطلع العام الماضي، تقول بلوم، كانت أحد الأسباب التي دفعتها إلى العمل على هذا الفيلم.. ولفتت إلى أن (حكومة نتنياهو تحاول إصلاح المحكمة العليا، ثم تشن الحرب على غزة، بطريقة لم تكن لتحدث أبدًا، لو لم يكن لديها مثل هذا الائتلاف المتطرف).. وأوضحت أنها وجيبني قرّرا إنتاج فيلم وثائقي لا يروّج لتعاليم دينية معينة، بل إنهما يَعُدّان الفيلم الذي يتناول الإسرائيليين والفلسطينيين.. فيلمًا وثائقيًا يروي الحقيقة، ويركّز على حقوق الإنسان، وليس فقط على حقوق الإسرائيليين والفلسطينيين، (حاولت جاهدةً إيجاد أرضية مشتركة في هذا الفيلم، شيء يمكننا جميعًا أن نتفق عليه، وهو أن بقاء نتنياهو لفترة أطول من اللازم، أمر يتفق عليه كثير من الإسرائيليين وكثير من الفلسطينيين أيضًا، وقد يختلفون عندما تذهب إلى أبعد من ذلك، من حيث الحل لأزمة الشرق الأوسط، ومن المؤكد أنهم سوف يختلفون حول هذا الأمر، ولكنني أعتقد في واقع الأمر أن أغلب الناس، باستثناء المتشدّدين من أنصار نتنياهو، يتفقون على ضرورة رحيل نتنياهو).. لقد شعرنا أنه من المهم، وبصراحة، ومن واجبنا، بصفتنا مواطنين نؤمن بالعولمة، أن نجعل قصة نتنياهو معروفة في أقرب وقت ممكن؛ لأن الناس في فلسطين، يموتون كل يوم!.
وبعد العرض الأول للفيلم في تورنتو، قال جيبني للجمهور، (لم أر قط عمق الفساد الأخلاقي كما رأيت في هذا الرجل)، وقال أحد الناشطين الذين شاهدوا الفيلم، إنه ليس كوميديًا رومانسيًأ، لكن من الضروري أن يشاهده أي يهودي يهتم بالإنسانية وإسرائيل.. وتزامنا مع العرض، تظاهر عدد محدود من الإسرائيليين أمام صالة العرض، معتبرين أن (فساد نتنياهو يُعرض الرهائن للخطر)، ودعوا الحكومة الإسرائيلية إلى التحرك الآن لتأمين إطلاق سراح الرهائن، وتأمين وقف إطلاق النار في غزة قبل، فوات الأوان.
■■ وبعد..
لقد وصفت وسائل إعلام إسرائيلية الفيلم الوثائقي بـ (قنبلة سياسية) قد تهز إسرائيل، التي تشهد أصلًا غليانًا غير مسبوق، ضد الطريقة التي يدير فيها نتنياهو ملف الرهائن والحرب على غزة.. وعلى الرغم من أن نتنياهو لم يستطع من منع عرض الفيلم في المهرجان الكندي، إلا أنه يرغب في توقيف عرضه ونشره في إسرائيل، بموجب القيود القانونية على مواد التحقيق المصورة، الأمر الذي يتفهمه جيبني، ويرى أن إصرار نتنياهو على عدم عرض الفيلم، دليل قوي على شخصيته الفاسدة.. آملًا بأن يصل الفيلم لكل إسرائيلي عبر قنوات بث مختلفة.. وقد استند محامي نتنياهو في حجته بالطلب العاجل لدى المحكمة لمنع عرض الفيلم، أن أحد منتجي الفيلم، رافيف دروكر، يعمل في القناة الثالثة عشر الإسرائيلية، وهو أحد أشد المعارضين لنتيناهو وحكومته، وهدف الفيلم هو إسقاط نتنياهو سياسيًا!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.